في الحادي عشر من سبتمبر 2005 أنهت إسرائيل إجلاء رعاياها وجنودها من 25 مستوطنة في قطاع غزة والضفة الغربية، بعد احتلال للقطاع استمر لمدة 38 عاماً. والواقع هو أن إسرائيل أجلت مواطنيها اليهود من القطاع في الثالث والعشرين من أغسطس 2005، ولكنها أرجأت سحب جميع جنودها ومعداتها العسكرية إلى وقت لاحق. ويعود السبب في ذلك إلى الهدم المكثف الذي جرى للمستوطنات التي أخلاها اليهود.
وإلى ما قبل الانسحاب الكامل بساعات، كان الفلسطينيون ممنوعين من مجرد الاقتراب من تلك المستوطنات، التي كان الجيش الإسرائيلي يحيطها بالخنادق والمتاريس والأسلاك الشائكة.
ويأتي التصرف الإسرائيلي هذا في سياق أن عملية الانسحاب تمت واقعياً من طرف واحد، ولم يحدث حولها نقاش يتم التوصل من خلاله إلى صيغة، متفق عليها، يتسلم من خلالها الفلسطينيون أراضيهم بكامل البنية التحتية التي أقيمت فيها. ويُضاف إلى ذلك أن إسرائيل تستكثر على الفلسطينيين أية فائدة تعود عليهم من خلال عملية الانسحاب، ولو كانت تلك الفائدة مجرد خرائب وأكواخ لا قيمة حقيقية لها.
ولكن السؤال الذي يمكن طرحه هو: لماذا تنسحب إسرائيل من جانب واحد ضمن العملية التي أطلقت عليها "فك الارتباط مع الفلسطينيين" من هذه المستوطنات الخمس والعشرين، وفي هذا الوقت بالذات؟ وربما لا تكون الإجابة على هذا السؤال جاهزة، لكي تخرج وهي شافية كافية، لأن الحسابات الإسرائيلية في هذا الشأن معقدة جداً ولها جوانب خافية يصعب على المراقبين الخارجيين فك رموزها بسهولة. ولكن يمكن القول إجمالاً إن سبباً أمنياً يقلق الحكومة الإسرائيلية كثيراً هو الذي يقف وراء هذا الانسحاب، فالمستوطنات المخلاة هي عبارة عن جزر متناثرة في وسط المحيط الفلسطيني الذي أخذ هيجانه في التصاعد الشديد في أعقاب قيام إسرائيل ببناء الجدار الفاصل. إن المسؤولين الإسرائيليين طالما صرحوا بذلك منذ وقت طويل، وهو ما تزامن مع بدء الاحتلال ذاته والشروع في بناء المستوطنات، فهم ما فتئوا يقولون إن المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة صغيرة ومعزولة، وستكون أول الأراضي التي يتم التخلي عنها للفلسطينيين ضمن إطار عملية الأرض مقابل السلام، التي كان الحديث عنها يكثر قبل ظهور خطة الرئيس الأميركي جورج بوش المسماة بـ"خريطة الطريق".
ومن جانب آخر، فإن أسباباً اقتصادية إسرائيلية داخلية تقف وراء هذا الانسحاب، فالاقتصاد الإسرائيلي يعاني من مشاكل مزمنة، كالبطالة والتضخم وعجز الميزان التجاري مع الكثير من شركائه الخارجيين، ولولا الدعم القوي الذي يلقاه من الخارج لانهار منذ زمن بعيد. وينعكس الضعف الاقتصادي الإسرائيلي هذا فيما صرح به رئيس وزراء إسرائيل آرييل شارون عندما قال في خطاب وجهه إلى الجمهور الإسرائيلي عشية الانسحاب: إن فك الارتباط سيتيح لإسرائيل أن تنظر إلى الأمام، وبأن الأجندة الإسرائيلية ستتغير من الآن فصاعداً، لكي تركز على الاقتصاد والرفاه الاجتماعي والتعليم والأمن.
ويأتي في سياق أسباب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة الضغط الخارجي أيضاً، خاصة من الولايات المتحدة، فدون هذا النوع من الضغوط من المستحيل تخيل العودة إلى العمل بخطة خريطة الطريق التي أطلقها الرئيس بوش عام 2003.
إن خطة خريطة الطريق هذه تقوم على وجود دولة فلسطينية مستقلة تنشأ إلى جانب إسرائيل، وهذه الدولة تحتاج إلى أراضٍ لكي تقوم عليها. ولكي تزيح الإدارة الأميركية الغبار الذي تراكم على الخطة لابد لها، أن تضغط على كافة الأطراف لكي تتنازل عن مواقف محددة كلاً من جانبه. لذلك فإن المزيد من الانسحابات الإسرائيلية من أراضي الضفة الغربية متوقع على مدى السنوات القادمة إلى أن يصبح الأمر مهيئاً لقيام الدولة الفلسطينية المقترحة على أراضٍ تقع بكاملها تحت سلطة الفلسطينيين، تكون كافية لإقامة دولة مستقلة تستطيع العيش والاستمرار عليها.